الاثنين، 25 يونيو 2018

مغالطات بديعة!

أنيق .. وسيم .. حاد الذكاء .. وبالطبع، متمرّسٌ وواثق. جاء ليلقي ما في جعبته من حِمل. كنوع من الكياسة الدبلوماسية .. وبشيء من بعد النظر الاستراتيجي.

فهذه منصة أكاديمية مرموقة لا يُغض أمامها بصر.
جاءنا ملادينوف، ناصحاً واضحاً، ليس آبهاً بمجازية عنوان المؤتمر. يسارعنا بكلمتهِ خاليةً من أيّ استعارة أو تشبيه.

"سأبدأ بالإجابة عن تساؤلكم الأوّل: إلى أين نمضِ من هنا ؟ حسناً أنتم لستم ذاهبون إلى أيّ مكان. هذه أرضكم. هذا شعبكم. وهنا ستبنون دولتكم.
كفى لمغادرة الفلسطينيين .. وفقدانهم مفاتيح عودتهم واستسلامهم.
كلا، أنتم باقون هنا ولا تستسلموا. ابنوا دولتكم الديمقراطية الفلسطينية.
لأنه لا يوجد بدائل. مهما تعددت الرؤى والأفكار .. إن خيار الدولة الواحدة ليس مطروحاً.
بل إنّ خيار الدولتين هو الطرح الوحيد الملائم تاريخياً ودينياً ووطنياً وحتى في الإطار القانوني .. للشعب الفلسطيني.
والطريقة المُثلى للوصول لتلك الغاية هي عبر المفاوضات. أنا أجزم بهذا." ....

لقد ولدت يا رفيق ملادينوف في العام ذاته حين قدّمت غولدا مائير حكومتها الثالثة للكنيست الإسرائيلي. هو ذات العام الذي اعترفت فيه جامعة الدول العربيّة بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

كان عمرك يا رفيق، خمسة أشهر حين صار ياسر عرفات أول زعيم بدون دولة يلق خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

فنحن كنّا ولازلنا وسنبقى زيتون هذه الأرض. ونحن يا رفيق، لازلنا نقدّس مفاتيح بيوتنا في حيفا واللد وصفد. ولازلنا - نحن الشعب - نعتبر إخراجها من مخبئها خيانة عُظمى.
نحن نحب مفاتيح دورنا .. هي ما تبقى لنا. هي ما نرسم .. ما نغني .. ما نحلم .. مفاتيح بيوتنا هي ما نورث وما نرث.

يا رجل! كيف تجرؤ على استخدام هذا التعبير في هذا السياق .. ولو مجازا ! عليك أن تعلم أن مفتاح بيت جدي في يافا، بالنسبة لي، هو نسخة أصلية أصيلة من قرار 3236 لعام 1974. فما بالك إن كان هذا المفتاح العجيب، يقع في حيازة نحو 5.6 مليون لاجيء فلسطيني بالحد الأدني!

مُغالطات بديعة يا ملادينوف! والبقية ستأتي ..

يدهشك بحس إنساني عظيم وتعاطف حاد مع الأوضاع في غزة الكرامة والصمود .. يحدثك عن انقطاع الكهرباء وعدم صلاحية الماء للاستخدام البشري .. غزة في وضع كارثي يستوجب مساعدات انسانية. فهل سيتحول ملف هذا السجن الهوائي الوحيد في العالم الى قضية مساعدات انسانية وتنمية، وتتلاشى حينها قضية التحرر والاستقلال ؟!
نحن نعرف هذه الحقائق ليس فقط بالأرقام والتقارير، بل ببعدنا العائلي في أقل تقدير. هنا أصبت. لنا اخوة هناك وأصدقاء قدامى.

ثم يأتي دور النصيحة الحكيمة بحتمية الوصول الى حل جذري؛ عبر طريق واحد وحيد، وهو المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
مشيرا الى التحديات الجمة في طريق السلام من تآكل أرض دولة فلسطين! عبر بناء البؤر الاستيطانية ومصادرة المزيد من الدونمات والتوسع الإسرائيلي. لكنك يا رفيق، لم تتلفظ حتى بكلمة السر! ولم يكن اصبعك المشير الى المشكلة؛ ثابتا أوواضحا.

فأنا لم أسمع منك أن هذا الذي يفترس الأرض هو الإحتلال. ولم أفهم منك آلية تدخلك لوقف هذه الانتهاكات.

وضحت لنا تعاطفك وفهمك الجزيل للأوضاع وبينت لنا التحديات والعقبات في طريق الوصول الى المفاوضات .. مرة اخرى. وشرحت باستفاضة عن خطر الإنقسام الفلسطيني الفلسطيني. وأكدت على أن دورك ومن تمثل، يتمحور في الوساطة وتقريب وجهات النظر .. ونوهت الى اهمية عدم الانزلاق في دهاليز السلام الاقتصادي ومنهج ادارة الصراع، لما لهما من أثر سلبي على حلول الوضع النهائي.

ولكنك يا رفيق لم تتفوة بأي كلمة عن كيفة وضع اسرائيل تحت امرة القانون الدولي.
لم أجد بين سطورك اي شيء عن القدس في ظل عدم اعتراف اسرائيل باحتلالها أصلاً. فمثلاً لم أستطع استخلاص أي لمحة عن مصير ابناء المدينة الأسرى في سجون الإحتلال، وخاصة الأطفال منهم.

ولم أجد أمامي سوى شخص سريع البديهة يتقن ما يفعل. لم يكن بوسع الرجل، سوى القيام بعمله على أتم وجه .. قال ما قاله .. ورحل مستعجلاً .. لضيق الوقت ولإزدحام الأجندة.

-- هلا محمد أبو شلباية
خلال المؤتمر السنوي الأول لمركز دراسة السياسات وحل الصراع - الجامعة العربية الأمريكية / فلسطين / June 2018

الأحد، 17 يونيو 2018

والمزيد من تكسير العظام

في الرّابع من نوفمبر عام 1995، اغتال إيجال أمير أشهر رجالات البالماخ المتفرّعة من الهاجاناه، وبهذا صار اسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الوحيد الذي يقضي اغتيالاً حتى يومنا هذا.
رابين؛ صاحب المنهج الفذ، المعروف بسياسة تكسير العظام، والحاصل أيضاً على جائزة رونالد ريجن للحرية وجائزة نوبل للسلام عام 1994.
نعم، انها لسخرية عظيمة. لكن، لك أن تجد روابط الأمور المنطقية، إذا درست عن كثب قذارة علم السياسة تطبيقاً لا نظرياً.
سياسة تكسير العظام، لمن لم يشهدها، هي نهج جيش الإحتلال الفاشي في قمعنا منذ بضع وثلاثين عاما من اليوم. حين كان الكل الفلسطيني يدرك وجهته، ينتفض لحريته وكرامته. حين كان الكل الفلسطيني جسدا واحدا، عظيما كالبحر شامخا كزيتون البلاد. يعرف عدوه. ويعرف صديقه جيدا. يعرف غايته، وقد دفن عميقا اختلافاته على ألوانها ووضع نصب عينيه الوحدة والنصر.
ثمّ ماذا؟
ضاع الحلم وتاهت الحقيقة في سراديب السياسة المظلمة. كُسّرت أطراف الفدائيين والملثمين. ثم جُبرت مشوّهةً معطوبة، تماما كالصّف الفلسطيني الحالي.
ومرت السنين وحدث فيها ما حدث .. حتى صار هناك فضلا لفلسطيني على فلسطيني. فحكمنا لون بطاقة الهوية .. وحكمنا الحسب والدين .. والحزب والفصيل .. الى أن خلعنا عنا ثوب المُقاوم .. وبتنا عراة لا ثوب يليق بنا !
انتصرنا لأشخاص حسبناهم آله لنا. انتصرنا لأفكار فردية ومناهج جاءتنا من الفضاء .. لا تناسبنا ولا نناسبها.
انتصرنا للبداءية والهمجية وعظّمنا فوارقنا الهاملة وجعلناها دستورا. خجلنا من كلمة فدائي .. فاستبدلنا مفردات هويتنا بأخرى عصرية عالمية .. حتى توالت علينا المصائب الوطنية .. ليس ككرة ثلج بل كحمم بركان ثائر تحرق كل ما تطل. حتى صار ما لم يكن أبدا في الحسبان، واقعا .. وعليه شهود.
صار واقعا يخلع القلب. صار حقيقيا لدرجة الغثيان. صار مؤلما حد البؤس.
لقد انتهجنا نحن أنفسنا سياسة تكسير العظام. ضد أنفسنا. نحطّم بعضنا البعض .. وبكل فخر نعطي المبررات المنمقة والتخريجات المدروسة بعناية.
في هذه المرحلة نحنا لسنا بحاجة الكثير. سوى وحدة وطنية، انتخابات، شيء من الذاكرة ..... والكثير الكثير من الكرامة والضمير.
-- هلا محمد أبو شلباية | 18.06.2018 | فلسطين المُحتلّة

الجمعة، 23 مارس 2018

"ابن كلب" .. شتيمة الفقراء وقليلوا الحيلة !

بالطبع .. وكأي مواطن عربي يسكن في الوطن العربي، فأنت لديك المام عظيم واسع ب"قاموس الشتائم" المعمول به حسب الأصول في بلدك .. وربما في البلدان العربية المجاورة. ولربما أسعفك فضولك، فاتطلعت على شتائم "الغرب" .. ووجدت بها العجب أيضا !
كيف لا وأنت حفيد من كان الهجاء أساس حضارتهم !
إذا أنت الآن تدرك جيدا أن هناك تصنيف رائع للشتائم المتداولة حولك .. فمنها ما يُقصد به "الإهانة"، وهناك ما يقصد بها ال"هزار" .. ومنها ما فقد "وهرة" الشتيمة وعصب الأذى عبر الزمن، فبات عاديا متداولا، لا يحمل أي من جينات الفظاظة.
وحين كان عصر انتشار الايدولوجيات .. احتلت هذه الحالة الحيّز العام لتتشكل شتائم جديدة في حينه .. مثلا .. كنا نقول "برجوازي عفن" بغرض الإهانة .. و"امبريالي" بهدف التحريض والتشهير .... والقينا بنعوت مختلفة على الآخرين مثل "كافر" و"فاسق" و"كاسيات عاريات". وكنا نعني ما نعنيه في حينه .. حيث كنا ندعي التحرر حينا والمحافظة حينا آخر !
شتمنا الإحتلال مرات ومرات ولا زلنا .. ونعتناه بأسوأ الألفاظ .. خاصة عند اشتداد الحر ونحن ننتظر دورا في التنكيل على الحواجز العسكرية !
شتمنا الجمادات حتى .. وبصقنا على شاشة التلفاز خلال نشرة الآخبار .. من منا لم يفعل ذلك ؟!
شتمنا الرؤساء والحكام والسلاطين .. وجميع ما كان له صلة بهم .. شتمنا الامة والزمن والمكان .. شتمنا حتى انفسنا !!
حتى أن لأدبنا وشعرنا بصمة مدوية في عالم الشتائم .. كم كان مظفر النواب بارعا في "مجازية البذاءة"؟؟ حتى أن معظمنا لم يكن يعترف أصلا بأن النواب يفتقر الى "ايتيكيت" العمل الأدبي ! .. لقد عشقنا الرجل !
ويستمر العمل بحسب الأصول الأصيلة المتأصلة بعلم الشتائم وتصنيفها وتأطيرها وتسيسها وتدنيسها وابتكارها واختراعها؛ الى أن جاء "الفقير" .. ذو الحظ "الفقير" أبو مازن. نطق الرجل أخيرا .. واصفا فريدمان، احد "ثلاثي المكر" - فريدمان وكوشنير وجرينبلات -  ب"ابن الكلب"!! لتستعر عجلة الاتهامات وتشير له الأصابع المدمية وتصفه وتصفنا معه .. بمعاداة السامية ! وكالعادة يا سادة !
نحن نعلم جيدا أن السياسي وخاصة ان كان مخضرما .. اذا ما سلك طريق "الشتيمة" فهو اما عاجز او خائف او عنصري .. على الأقل بعض الأبحاث العلمية تقول ذلك. السياسي اذا شتم فهو يعاني من تأزم الهوية. علما أنه ليس بالضرورة على الرئيس أن يكون دبلوماسيا ! وله بذلك مطلق الحرية والصلاحية بنطق ما يشاء كيفما يشاء ! فكيف ان كان حليما بالعادة !
لنجد أنفسنا أمام سؤال من النوع الفخم؛ لماذا نلجأ للشتيمة احتجاجا ؟! هل لازلنا في مرحلة الاحتجاج والترجي والتوسل وصرنا نعبر عن هذا بالشتائم ؟!
نعم .. ان كل افراد عصابة الصفقة الجديدة هم ابناء كلاب ! صغيرنا قبل كبيرنا يعلم هذا .. ماذا سيتغير ؟!
نعم .. هم ليسوا فقط "ولاد كلب" بل مجرمين وقتله ومحتلين وابالسة وشياطين ومستعمرين وعنصريين ... وأشياء كثيرة لن أذكرها هنا حفاظا على "الايتيكيت" الاخلاقي والوطني ! يقتلون شبابنا ويسرقون احلامنا ويتلذذون بدماء اطفالنا.
هم اسوأ من اولاد الكلاب بكثير جدا.
ونعم. يحق لأبو مازن قول المزيد بعد. تعجبنا سنينا من هدوء الرجل المفرط! .. ولكن ...... ماذا بعد "ابن كلب"؟ .. ماذا بعد؟؟

-- هلا أبو شلباية / آذار 2018

الأحد، 23 يوليو 2017

"للعته وجوهٌ كثيرة .. وللصّمود وجهٌ واحد!"

في أحد دروسه الدينية المزعومة في مايو من العام 2000 قال: "إن العرب صراصير يجب قتلهم وإبادتهم جميعا"، ووصفهم بأنهم أسوأ من الأفاعي السامة.
وفي أغسطس للعام 2004 قال أيضاً: إنّ "اليهودي عندما يقتل مسلما فكأنما قتل ثعبانا أو دودة ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كلاّ من الثعبان أو الدودة خطر على البشر، لهذا فإن التخلص من المسلمين مثل التخلص من الديدان أمر طبيعي أن يحدث". في خطبة له بثتها الفضائيات الإسرائيلية.
وظهر بعدها على القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي وأعاد كلامه مع تأصيله وإسناده من وجهة النّظر اليهودية، زاعماً أن الدين اليهودي يحثّ على التخلص من كل من يسكن فلسطين، وأنه جاء في التلمود على حد زعمه؛ "إذا دخلتَ المدينة وملكتها فاحرص على أن تجعل نساءها سبايا لك ورجالها عبيدا لك أو قتلى مع أطفالهم".
راديكاليٌ عنصريٌّ ومثير للجدل. كان جهده حثيثاً في إطار محاولته لإعطاء صبغة دينية على انتهاكات الإحتلال وممارساته. كان آله للتحريض وسفك الدماء والظلم واللادين.
عوفاديا يوسف.
الذي لم تعجبه يوما سياسة أريئل شارون بالانسحاب من غزة في عام 2005. فقام "يدعي عليه". أثناء خطبة دينية أيضاً قائلا: "فليقض الله عليه .. إنه يُعذب شعب إسرائيل". لكنه كان صديقاً مقربا لشمعون بيريز.
رحل الى ربه في السابع من اكتوبر لعام 2013، فأُغلقت شوارع القدس ونُكّل بأهلها. وتحولت حينها الأحياء العربية في المدينة الى ثكنه عسكرية مسكونة بالأشباح.
يومها، فوجيء المقدسي المرابط وحيدا بأن موقفنا الرسمي كان "يأسف" لوفاة يوسف!
ذلك الموقف الذي لطالما كان يقدّم الفائض عن الحاجة الإسرائيلية من كل شيء .. وكل شعور .. وكل موقف سياسي وانساني ويُقابل بالرفض المطلق!
والآن، نحن لسنا فقط نجابه إحتلالاً وتهويداً ممنهجاً للمدينة المقدسة، لا. بل نعيش محاولات وممارسات جادة لتحويل الإحتلال الى صراع وتحويل الصراع الى نزاع ديني عقائدي. والتلاعب بحيثيات النزاع وأطرافه. بعزل الطرف العربي واستبداله بالفلسطيني بل بالمقدسي الفلسطيني الأعزل وحده منفردا.
فترانا نشهد اعتقال مُسنّ مقدسي صامد. مسّه الضر، فناجى ربه، اذ لا ملايين الدولارات ولا تجميد الإتصالات ينجيه من فك الإحتلال المفترس؛ "أنك أنت وحدك القادر الجبار، قد مسني الضر يا الله، وأنت أرحم الرحمين .. اللهم يتم عيالهم ورمل نساءهم وأغثنا يا الله" !! دعوة واحدة جاءت جهراً في مسمع قادم جديد يخدم جيش الإحتلال فكانت كفيلة باعتقال الرجل!
فلندع إذا ربنا سرّاً. ولنصمد كما عهدنا. فالصغير قبل الكبير في القدس يعرف فحوى الدعاء.
لم نكن يوما مُحرضين، ولم نكن يوما مُعتدين. نحن المرابطون على ما تبقى من أرض والمحافظون على العرض.
داقت بنا السُبل الى الخلاص.
ولن نقبل بأن يكون "العته المُتطرف" ولا "العته المتخاذل" طريقا لنا. لم يبقى لنا سوى الصمود والدعاء.
-- هلا محمد أبو شلباية | 22 يوليو 2017

السبت، 15 يوليو 2017

صفيّة

لم أكن يوماً مقدسيّة! رغم أنّ مدينة السلام مسقط رأسي ومهدي ومراهقتي وصباي. لطالما كان دمي أزرقاً .. زرقة أتت من ملامح الأونروا واللجوء. أنتمى أنا لبيّارات يافا المسروقة ولوني يُشبه كروم العنب في خليل الرحمن. أنا مزيج لطيف من الجنوب ومن الشمال الشرقي للساحل. توليفة غريبة مبدعة تطغى على أي تعصّب لأي قرية أو مدينة فلسطينيّة.
لم أكن يوماً مقدسيّة ولم يستهوني للحظة السباق المحموم لنيل وإثبات ذلك الشرف.
شهدتُ في طفولتي أحداث مرعبة كثيرة في القدس، أذكر منها ما أذكر .. حتّى أنّي حين أرجع بالذاكرة ليوم مجزرة الأقصى في 8 أكتوبر من العام 1990، أكاد اشتم رائحة دم الشهداء مجبولة بتراب الحرم القدسيّ الشريف ودخان الرصاص والبارود. ذاكرة قديمة موجعة كادت أن تتلاشى .. لولا أن هناك من يُصر على إحياءها وتجديد سماتها بإستمرار الإحتلال وممارساته وظلمه ..
أذكر واجب الرياضيات المتقن الممتاز، كنت أكتبه بعناية فائقة على نور لمبة الكاز ورائحتها العجيبة رغم الوضع المادي الجيّد في ذلك الحين. ورغم توفّر الكهرباء. لكن تلك كانت أوامر دبابة الإحتلال حين فرضت منع التجوال وإطفاء الأنوار، لعدة أيام على التوالي، وجثمت بسكون مدوي أمام باب بيتنا في القدس.
أذكر مداهمات الجيش. والخوف الممزوج بالكرامة وعدم الإفصاح. أذكر دبيب أقدام الفدائيين الملثمين الحذر، وأنفاسهم اللاهثة هربا من الجيش خلف الأسوار وبين الأشجار.
كل ذلك وأكثر لم يكن ليحزنني. كنت أشعر بالفخر والعز.
وكان فرحي حين الفرح فرحا صادقا عارما خاليا من الآلام والحسابات والتكهنات والترقّب.
أما الآن .. فحزني وقهري وقلقي على مدينتي لا يجد نعتا لائقا لوصفه بحق.
خوفي الآن .. لا يشبه أي شيء .. ولا يواسيه صوت مرسيل خليفة الخافت المنبعث من مذياع قديم في غرفة الجلوس يغني "وعلى كتفي نعشي .. وأنا أمشي وأنا أمشي .. "
ولم يعد بمقدور قصة ما قبل النوم، وهي الأجمل على الإطلاق، أن تواسيه.
هذه الرواية العبقرية .. تسردها أختي الكبرى بصوت شجيّ حنون .. يصمت حينا ويغص ويختنق حينا آخرا : "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله .. ".
لك الله يا قدس.

-- هلا محمد أبو شلباية
15.07.2017
فلسطين المحتلة

الأحد، 28 مايو 2017

ذاكرة السمكة

"ذاكرة السمكة"

ولا زلنا نلف وندور حول "همجية" إغلاق الطرق الداخلية وإشعال الإطارات فيها .. ولا زلنا نتهم من قام بهذه الأفعال "بالغوغائية" .. وتخيّلوا بتلويث البيئة أيضاً !! ..
ولا زلنا ومن قصورنا العاجية مرة أخرى، نلق السخط على قعودنا في بيوتنا أيام الإضراب التضامني مع الأسرى .. بأنه لم يكن ذا نفع ولا انتاج. لأنّ "ذاكرة السمكة" تُصِرُ على أن إقتصاد بلادنا موازٍ لإقتصاد المانيا مثلاً! 
فننسى أو نتناسى الوحل العميق الموجع الذي نغوص فيه، ونزداد غرقاً وتعمّقا فيه في كل لحظة تنسلخ القيادة فيها عن الشعب.
هذا الشعب الذي بات يمشي على مبدأ "شوره من راسه"، هذا الشعب المتروك "لشطارته" في ايصال نفسه وخيره أبناءه الى بر الأمان .. وفي معظم الأحيان لا يُفلح !
هذا الشعب الذي لا يُنفك يتضرع الى الله في كل "حين ومين" أن أعْطِنا خبزنا كفاف يومنا ولا تجعلنا في تجربة يا الله !
هذا الشعب الذي كان نضاله انموذج يُدرّس للعالم وكان متعلميه يشحنون بالطائرات الى دول الخليج لبناءها ولتمكين أشقاءنا هناك.
الرجوع لأمجاد الماضي منتقدٌ بطبيعة الحال .. لكن ما يجبرنا على هذه النستالجيا العقيمة هو تدهور حالنا اليوم !
هل هي المناهج الركيكة؟ هل هي عدم فرض الزامية التعليم؟ هل هو عدم التفاف الناس حول قيادة واحدة شامخة صلبة بمحبة وثقة؟ أم هل هو انشغالنا بإعطاء "ليبلز" وتصنيفات لكل من بادر بإنتقاد او ابداء رأي بأنه محسوب على "جماعة أبو فلان" أو من "جماعة أبو علان" ؟
الهذا الحد وصل بنا الإفلاس؟ الهذا الحد وصل بنا الانقسام الأعمى؟ الهذا الحد من الوثنية صرنا؟ نعبد الأشخاص و"أولياء النعمة" ؟؟
نعم. لقد غابت القيادة الموحدة في الشوارع عن إضراب الأسرى الاسطوري. والذي كان من الممكن للقائد الفذ استثماره بأبهى طريقة ولأسمى غاية.
ونعم. لقد انتصر الأسرى من ظلمات الزنازين .. ببساطة بعدم عودتهم لنا في التوابيت. انتصر الأسرى بأنهم لم يصيروا قرابين وأكباش فداء للا شيء كما صار شهداءنا الابطال.
هل تحققت مطالبهم؟ لست أدري!؟
نعلم أن الانتفاضة يوما ما، كانت ورقة ضغط قوية للتفاوض. هل كان اضراب الاسرى كذلك؟
هل علينا أن نعرف ونُعرّف عدونا مرة جديدة؟ لماذا نصر على ابقاء "ذاكرة السمكة" وننسى أننا تحت الإحتلال؟ هل هذا "شيءٌ يُنسى" ؟؟؟!!!
-- هلا أبو شلباية | 28 مايو 2017

الثلاثاء، 23 مايو 2017

أن يكون لك من الحظ العاثر نصيب الأسد


إنّه لمن الفطنة والأدب، أن نُبقي عقولنا يقظة تجاه مسمّيات ومفاهيم أختلط حابلها بنابلها في أيامنا العصيبة هذه كفلسطينيين.
فنحن عندما نتحدّث عن الديانة النصرانية أو المسيحية، نستحضر ديناً أنزله الله تعالى على سيدنا عيسى المسيح عليه السلام ! هذا الدين الذي يدعو الى المحبة والسلام بين الأفراد والدول والأمم والشعوب. هذا الدين الذي يحارب سلب الحقوق والاحقاد. وينبذ الشرور والمعاصي. أما حين يأتي الذكر على الصليبيين والصليبيّة فلماذا يغيب عن وعينا أننا نتحدث عن مَجمع الآثام والشرور .. عن الحشد الذي جاء بدايةً وأساساً ضد السيد المسيح في محاولات قتله ؟! لماذا يفنى عن ذهننا أن الصليبي هو الشيطان بالمفهوم المتداول، عدو الرحمة والانسانية، عدو التسامح والعطاء، صديق الاستعمار والظلم وبسط النفوذ وسفك الدم والسواد ؟!
لم يحدث يوما أن كان أتباعُ رسالة سماوية صليبيين ! لأن الأخيرة ببساطة شديدة تنسف جميع الاسس الانسانية التي تنادي بالعدل وعدم التفرقة وتؤسس بدلا منها مفاهيم شبيهة باوتشفيز النازية !
قد يحدث ايضاً، أن يكون لنا من الحظ العاثر نصيب الأسد. فنحيا في زمنٍ حقير، لا يمت للعقل ولا لأي مبدأ عقائدي بصلة. فنرى من المسلمين وغير المسلمين والمرتزقة على إختلاف أديانهم الرسميّة، من هم صليبيون أيضاً. يرحّبون بتجّار البشر ويستميتون في مدح الطغاة الظلمة، يبجّلون محاصرة الشعوب وذبح الأطفال.
علينا الآن أن نخرج وبكل وعي من حالة التشنج والتيه. أن لا نفقد بوصلتنا الفكرية قبل كل شيء. وعلينا أن نعي حقّاً، بأننا نحن أصحاب الحق، وأن لا نسمح لأنفسنا أولاً بالانجرار وراء سُخف محاولات زعزعة ضمائرنا. وثانياً، أن نمسك بزمام أمرنا، فلا نصبح تابعين ومتفرجين، بينما تُمارس بحقنا هولوكوست جديدة كل يوم لا تشرق علينا فيه شمس الوحدة الوطنية.
-- هلا أبو شلباية | 24 مايو 2017